"ونريد ان نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين....."
(صدق الله العلي العظيم)
لقد تمسك الامام الخميني رحمه الله بهذا الاية القرآنية قلبا ولسانا وفكرا وايمانا يرددها في اغلب احاديثه, فكان جهاده منذ شبابه يهدف لتحقيق مضامين هذه الاية التي ترمي الى تحقيق العدالة واحقاق الحق بين ابناء الشعوب, ومن هنا لم يكن اندلاع الثورة الايرانية محض صدفة او مشيئة قدر لظروف آنية او لنتيجة دراما تراجيدية كما حدثت في تونس. فحين حرق احد ابناء تونس نفسه كانت الحادثة اهم سبب للهيب الانتفاضة التونسية, والتي اصبحت كما يظن بعض الكتاب السبب في اشتعال انتفاضات الربيع العربي. ولكن ما اكثر الذين حرقوا انفسهم قي بلدان اخرى قبل وبعد ما حدث في تونس الا انه لم تذكر حتى اسمائهم. والبعض منا سمع الكثير عن ابناء الهند بل حتى ابناء الامة العربية بانهم يقومون بحرق انفسهم بسبب الفقر والمجاعة او لاسباب اخرى, الا انه لاتتغير الحكومات نتيجة لتلك الفواجع بل حتى لا نسمع عنها في الاعلام. فالثورات والانتفاضات لم تعد كما يقال:"قد يبعث الامر العظيم صغيرُه - حتى تظل له الدماء تصبب". ومن جهة اخرى فان مسلسل الفوضى والارهاب اليوم في الشرق الاوسط لم يكن من باب المصادفة او احداث عابرة بل سبقته خطط ومهارات عالية خلف الكواليس في التأليف والاخراج, وما هذا القتل والتخريب وهتك الاعراض من قبل مجموعات ارهابية خارجة عن الدين والانسانية الا ضمن اجندات اعدتها مخابرات عالمية وصهيونية, وغذتها افكار وهابية تكفيرية ارهابية ومولتها بالدولار والسلاح دويلات خليجية كالسعودية وقطر وغيرهما من الحكومات العميلة.
لذا فان ما حدث في الدول العربية من انتفاضات قد تحول بعضها الى فتن طائفية وحروب قبلية ومطامع مادية لا ترقى الى مصطلح (ثورة) بل حتى لايمكن تسميتها بانتفاضة وطنية, لان الذين استولوا على العملية السياسية وخطفوها لم تكن لهم اليد الطولى والفاعلة في الانتفاضة بل حتى ان البعض منهم كانوا اعوانا وبطانة للنظام السابق , واحيانا مجموعة لاترقى عن كونها "عصابة سياسية عسكرية" كما في المصطلح الانكليزي "Political Military Junta ".
اما الثورة الايرانية فان زعيمها الامام الخميني الذي تعلقت به طبقات الشعب وجذبت شخصيته (الكرزماتية ) الجماهير, وكان هو المفكر والمخطط للثورة وزعيمها في داخل ايران وفي خارجها, فالجماهير الايرانية المسلمة تتلقى اوامر زعيمها الامام الخميني سواء كان بين صفوفها في ايران او في المنفى. هذه الزعامة التي لم تقتصر على انها زعامة دينية وروحية وحسب وانما اثبتت بانها زعامة اقتصادية وسياسية واجتماعية ايضا, فقد وحدت زعامته كافة طبقات الشعب الايراني, ومن ثم وقفت بوجه العدوان الامبريالي العالمي الغاشم الذي جاء بصدام رئيسا للعراق سنة 1979 بدلا من احمد حسن البكر للاطاحة بالثورة الايرانية الفتية وزعامتها. وكان سبب تخوف الوهابية ومخابرات الغرب من هذا الزعامة الجديدة في ايران لانها تمثل الفكر والتطبيق الحقيقي للاسلام والوجه المشرق للحضارة الاسلامية كما يرى هذا المفكرون الاحرار في العالم. انها زعامة الامام الخميني التي اكتسبت شعبية من قبل الشارع الايراني والاسلامي كادت تطيح باغلب الحكومات العربية العميلة لولا تدخل ومساندة المخابرات العالمية لتلك الحكومات, هكذا كانت الثورة الايرانية وزعامتها ولا تزال الى يومنا هذا مثالا للشعوب التي تناضل من اجل الحرية والاستقلال.
وحري بالذكر ان الثورة الايرانية لم ولن يكن هدفها الرئيسي الاطاحة بنظام الشاه وحسب كما هو الحال لبعض الثورات والانتفاضات من اجل الحكم والهيمنة, وانما قامت الثورة بتأسيس نظام جديد يحكمه دستور جديد وتغيرات اجتماعية اساسية نتجت عن اقامة مجتمع اسلامي جديد متماسك تسوده المحبة والتعاون والازدهار. وبهذه القيم الاسلامية النبيلة استطاع صمود وتحدي الجماهير الاسلامية الايرانية مواجهة المؤامرات والحصار والضغوط الاقتصادية, وكذلك مخططات المخابرات العالمية والصهيونية المدعومة بارهاب التنظيمات الوهابية والاموال الخليجية التي تهدف لزرع الفرقة والعداوات بين ابناء المجتمع الاسلامي.
ومن ابرز صفات الثورة الايرانية ايضا انها استطاعت القضاء على العشائرية والتعصب القومي البغيض الذي كان سببا في الصراعات والتمييز بين ابناء المجتمع الواحد, وكذلك تسعى الثورة الاسلامية في ايران على نشر الروح الاسلامية بين ابناء المجتمع الاسلامي رغم كل الصعوبات والاعلام الوهابي الصهيوني. وان الثورة الاسلامية برهنت للمجمتعات الاسلامية والعالمية انها تحارب الارهاب والتعصب بشتى منابعه ومصادره, ومن هنا يقوم المرشد الاعلى بتوجيه القيادات الدينية والسياسية والمنظمات الاجتماعية بنشر المحبة والسلام والاستقرار بين ابناء الشعب. وان المساعي التي تبذلها النخب الايرانية تحت راية الاسلام من اجل توحيد المجتمع الايراني المتعدد القوميات والديانات لهي من اروع الامثلة للحياة الديمقراطية التي يفتخر بها العالم المتحضر. والدليل على ذلك هو تشكيلة وتركيبة البرلمان الايراني المتعدد الديانات والقوميات والمذاهب والذي كرس جهوده من اجل وحدة الشعب الايراني والحب للوطن.
ان الايدولوجية الاسلامية التي تطبق اليوم في الجمهورية الاسلامية لم تكن من تطبيقات الدولة الاموية او العباسية او العثمانية او تطبيقات علمانية او ما تسمى بالحداثة او ما بعد الحداثة وانما تطبيقات للشريعة الاسلامية التي تعتمد كتاب الله وسنة نبيه وال بيته, ولذا اتخذت الثورة الايرانية منذ سنتها الاولى منهج الحكم الذي طبقه امام المتقين علي بن ابي طالب (ع) طريقا لها, وليس ذلك بغريب على القيادة الايرانية لان سلالة ال بيت النبي محمد (ص) تمثلت بقائد الثورة الايرانية الامام الخميني الراحل رحمه الله ولاتزال متمثلة بمرشد الثورة الايرانية السيد علي خمنائي فكلاهما ينتمياني الى الشجرة المحمدية الطاهرة,وكذلك زعيم الحوزة الدينية الامام السيستاني اطال الله عمره وسدد خطاه, فكل هؤلاء ابناء الدوحة النبوية يتحملون اليوم اعباء مسئولية النهوض بالمجتمعات الاسلامية والانسانية, هذا هو قدرهم وكما كان اجدادهم.
ورغم اننا نقرأ ما يكتبه العقل الغربي من انتقادات سلبية عن بعض الزعامات الدينية في الاقطار العربية والاسلامية الا اننا نرى العالم المتحضر يقف وجلا متهيبا بكل احترام للزعامة الايرانية الدينية, وذلك لانها اخذت بيد الشعب الايراني وحكومته نحو الاستقلال والتقدم والتطور التكنولوجي , واصبحت ايران من بين الدول التي يحترم العالم المتحضر مكانتها بسبب التقدم السريع الذي ينهض به الشعب الايراني ملتزما بنظرية الامام علي (ع) :" ولا تقصروا اولادكم على ما تربيتم عليه لانهم خلقوا لزمان غير زمانكم " والتربية هنا ليست التربية الاخلاقية وحسب وانما بالاضافة للتربية الاخلاقية والدينية كذلك التربية العلمية والعملية, وخاصة اننا نرى تأكيدات الامام علي (ع) على اهمية العلوم ودراساتها يتكرر ذكرها بكتابه نهج البلاغة بشكل يتخيل فيه القارئ وكأن الامام علي (ع) يعيش في القرن الواحد والعشرين وما بعده وليس في النصف الاول من القرن الهجري. هكذا سارت ايران الاسلام على كتاب الله وسيرة نبيه وال بيته, فكان حظها من العلم والمعرفة ما نشاهده اليوم حيث اصبحت ايران من بين اقوى دول العالم بالاضافة الى ما نالته من احترام ومكانة باعتبارها من الدول التي ساهمت في ازدهار الحضارة العالمية.
......ان الثورة الايرانية لم تكن وليدة حروب عصابات (guerrilla ) كالقاعدة والتنظيمات التكفيرية الوهابية او حركات مسلحة كما كان الحال في الثورة الجزائرية في محاربة الغزاة الفرنسيين والافغانية مع الروس, وانما كانت تعتمد الايديولوجية الاسلامية فكرا وعقيدة وجهادا. ولذلك كانت مبادئ وايدولوجية الثورة الايرانية واضحة منذ اليوم الاول للثورة بعيدة عن زيف مصطلحات ( المحاصصة والمشاركة والتوافقية والعملية السياسية), كل هذه المصطلحات يراد اليوم تطبيقها في العراق ودول الربيع العربي تحت اطار الديمقراطية المزيفة والتي لاوجود لتطبيقاتها في العراق وغيره من الدول العربية ولو كان شكليا وانما يحل مصطلح (الكلوبتو قراطية) بدلا من الديمقراطية.
ومما جعل الثورة الايرانية لها مكانة محترمة بين شعوب العالم بشكل عام وبين ابناء شعوب الدول الاسلامية بشكل خاص هو سمو الزعامة الدينية ومصداقية القيادة السياسية الايرانية فلن تساوم هذه القيادات على المبادئ اطلاقا, فكما رفض الامام علي (ع) مساومة المارق معاوية بن ابي سفيان وكذلك رفض الامام الحسين (ع) مساومة الظالم الفاجر يزيد رفض الامام الخميني رحمه الله مساومة الطاغي الجائر شاه ايران واسياده ووقف مع المستضعفين في الارض, ولا ننسى ايضا ان ابناء ايران منذ ان دخلوا الاسلام بايمان وعقيدة صادقة وضعوا كل مقومات حضارتهم السابقة في خدمة الاسلام, وثابروا بدراسة علومه بصدق واخلاص, واتبعوا طرقا منهجية حضارية في تصنيف العلوم الاسلامية من تفسير للقرآن وتقعيد للغة العربية وكل فروع العلوم البحتة التي كانت تتميز بها الحضارة الفارسية قبل الاسلام. اما ما قدمته الثورة الايرانية منذ انتصارها لابناء منطقة الشرق الاوسط من نموذج ديمقراطي واستقلال تام يسير على هديه الاحرار في العالم, فهو حقيقة واضحة كوضوح الشمس, وقد حققت ثورة 1979 الاسلامية في ايران اهدافها بينما تعثرت اهداف اية ثورة سبقتها كالثورة الفرنسية التي تهيمن اليوم عليها المبادئ الامبريالية او الروسية التي تخلت عن مبادئها الماركسية - اللينينية وكذلك الثورة الامريكية التي تحولت الى دولة امبريالية استعمارية غاشمة وغيرها من الثورات التي هجرت اسباب قيامها.
فالثورة الايرانية بالاضافة الى كونها ثورة اطاحت بحكم دكتاتوري كغيرها من الثورات السالفة الذكر وبنت نفسها تكنولوجيا واصبحت دولة مستقلة حريصة على ثرواتها الا انها تختلف عن غيرها من دول المنطقة, وانها تتميز عن الثورات الاخرى باعتبارها جمعت بين تطبيقات الدين الاسلامي ومثله العليا من جهة وبين العلوم الانسانية التي تقتضي احيانا تفسيرات (علمية -علمانية) من جهة اخرى, وقد ادت هذه المثاقفة الى اسلمة العلمانية لاعلمنة الاسلام. ومن هنا نرى ان ايران قيادة وشعبا لايمكن ان يساوم على المبادئ الاسلامية ومثلها العليا, وهذا مؤتمر جنيف (2) وقبله جنيف (1) استخدمت فيهما كل وسائل المساومات والمراوغات كي تقف الحكومة الايرانية الاسلامية موقفا محايدا متفرجا عما يحدث في سوريا وبعض البلدن الاسلامية الاخرى, الا ان الشعب الايراني يأبى الزيغ والابتعاد عن الحق والعدالة, ومن هنا احترمته الشعوب كلما اتخذ موقفا قويا, وفي المقابل نرى حكومات دويلات الخليج تزداد احتقارا واهانة واذلالا امام شعوبها والشعوب الحرة.
لقد قامت الثورة الاسلامية في ايران على قيم اسلامية اصيلة وضعها امام المتقين علي بن ابي طالب (ع) نهجا للحكومات الصالحة,وذلك بأن يكون قادة الحكم نموذجا صالحا يقتدى به من قبل عامة الناس: فعلى الحاكم ان يملك هواه ويشح بنفسه عما يحل له لكي ينصف الناس, وان تكون له رحمة وحبا لشعبه لكي يبادله الناس في ذلك وان لايكون عليهم سبعا ضاريا وهذا ما نراه ونلمسه في مواصفات حكومة الجمهورية الاسلامية التي لاتحتوي بين ظهرانيها من الانتهازين والجبناء الضعفاء والظلمة. وكذلك ينصح الامام علي (ع) ان لاتأتي الحكومة الجديدة بوزراء كانوا مشاركين في ادارة الاشرار السابقة ولا من شاركهم في الآثام كما نراه من خليط في ادارة السلطات العراقية. ويرفض منهج الامام علي (ع) ان يكون المحسن والمسيئ عند الحاكم بمنزلة واحدة, وان لايكون الدين الاسلامي اسيرا في ايدي الاشرار يُعمل فيه بالهوى وتطلب به الدنيا, وذلك ما نراه متمثلا بازلام العائلة السعودية اعداء الله العظيم والاسلام العزيز, هذه العائلة الفاسدة المفسدة التي تبنت الوهابية المارقة والمعادية للاسلام والمسلمين.
واخيرا نسأل الله بسعته ورحمته وعظيم قدرته ان يحمي ويصون الجمهورية الاسلامية وقيادتها الحكيمة وشعبها شعب الايمان والتقى والشهادة, ولتبقى صرحا ومنارة يسير على هدي نور افكارها ابناء الاسلام وانصار الحق والعدالة في العالم , وفي هذه الذكرى الشامخة للثورة الاسلامية في ايران التي تكرس وتأكد بان الاسلام دين محبة بين شعوب العالم كما جاء على لسان رئيس الحكومة الايرانية الشيخ الدكتور روحاني, وذلك في مؤتمر دافوس الاخير حين وجه دعوة الى حكام وشعوب العالم لزيارة الجمهورية الاسلامية للاطلاع على: "الحضارة الاسلامية" قبل ان يتفوه بذكر الحضارة الايرانية. هكذا تشبع وانغرس الاسلام في قلوب ابناء شعب ايران, فهنيئا لزعيم الثورة الايرانية الاسلامية الراحل الامام الخميني بهذه الثورة, ونسأل الله ان يسكنه فسيح جناته لا لأنه حفيد ال بيت النبي محمد(ص) وحسب وانما ضحى بنفسه في سبيل الاسلام والمسلمين ما بين قضبان السجون والابعاد عن الوطن والتضحية بالابناء والاعزة, هذا الامام الذي فيه اسوة حسنة لمن يريد ان يبني دولة اسلامية حضارية فقد اعرض عن الدنيا بقلبه لانه لايعتقدها قرارا ولا يرجو فيها مقاما فاكرمه الله بذلك ورفع شأنه وعزز مقامه كما كرم سبحانه اجداده من نبي للمسلمين محمد (ص) وامام للمتقين علي (ع) وال بيت النبوة صلى الله عليهم اجمعين. واخيرا فان القلم واللسان عاجزان عن تبيان وقع الثورة الاسلامية العظيمة على نفوس الاحرار من المسلمين وتأثيرها في قلوب الملايين من ابناء شعوب العالم.
د.طالب الصراف
النهاية